تذكرني مقولات من قبيل "إن هذه الجماعة غريبة على الموصل وستؤدي أفعالها إلى استثارة أهل الموصل ضدها"، بمقولات سبقتها زمنياً من قبيل "إن السوريين ليسوا كالعراقيين ولن يدخلوا حرباً طائفية"، وقبلها "إن المجتمع العراقي ليس كاللبناني والطائفية غريبة عليه" ، وهلم جرا...
هذه المقولات تفترض أن للمجتمعات ملامح ثابتة ومحددة لا تتغير، وأن الجماعة هي " كيان" أزلي يمتلك "جوهراً" نفسياً ثابتاً، وهي تصورات بالاضافة إلى لا علميتها وتبسيطيتها، تمثل وعاء للكثير من المواقف العنصرية والتمييزية، وتلك التي تعتاش على الأساطير الدينية. ولنتذكر أنه قبل الحربين الأهليتين في ليبيا وسوريا كان هنالك من يروج لمقولة أن العراقيين هم قوم عنيفون بشكل استثنائي، وقبل الحصار الذي أدى إلى افقار غالبية العراقيين كان هناك في العراق من يسخر من أهل الخليج، أو من يعتبر المشاكل التي طرأت على سلوكيات المجتمع العراقي نتاجاً حصرياً لتوافد العمالة المصرية!
إن التعكز على " صفات جوهرية" معينة لفئة ما من الناس، وبناء استنتاجات حول الكيفية التي ستتصرف بها تلك الفئة، هي طريقة خاطئة في بناء التوقعات، والأمر لا يتعلق فقط بحقيقة أنه لا وجود لأي فئة بشرية بخصائص وحدود نهائية وثابتة، بل وأيضاً بما هو أكثر أهمية: إن منطقتنا تعيش منذ عقود أكثر حالات السيولة الاجتماعية والثقافية، حيث تفقد الكثير من خصائصها السابقة وتغير من أنماط حياتها ويصحب ذلك أزمات هوية حادة، وتحول سريع في أنماط التفكير وهيمنة لخليط غريب من الراديكالية الدين-سياسية والعدمية الأخلاقية .
هنالك حالة انهيار للمراكز الحضرية القديمة واندفاع من الأطراف نحو احتلال تلك المراكز ديموغرافياً، وهي الحالة التي أحب تسميتها بحالة مابعد-القبيلة، حيث يوجد مجال اجتماعي هو في الوقت نفسه غير تقليدي وغير حديث، غير قبلي وغير مديني. ومثل هذه الأوضاع وماتخلقه من أزمات هوية حادة تمثل بيئة مواتية لانتشار العقائد الاقصائية والهويات المؤدلجة، فما تقدمه السلفية الجهادية اليوم ربما يلبي الحاجات النفسية للكثيرين، فهي عقيدة تقوم على سرديات بسيطة وتصنيفات حادة ويوتوبيا خاصة بها، وهي خصائص تجذب قطاعات واسعة تعاني من أزمات الهوية العميقة .
لذلك، لا أميل كثيراً الى مشاركة البعض تعويلهم على استجابة ثقافية مضادة يقوم بها "أهل الموصل" تجاه تدمير تنظيم "الدولة الاسلامية" للبنى والمعالم الثقافية والاجتماعية الموصلّية، فلا توجد أدلة كثيرة تستثني الموصل المحاذية للصحراء والريف من أزمة الهوية الضاربة فيما حولها، ويمكنني أن أضع العشرات من علامات الاستفهام على مصطلح " أهل الموصل" كما أفعل -مثلا- مع مصطلح "أهل بغداد" .ان المدن تتغير ومعها تتغير الهويات والثقافات، وفي معظم حواضرنا التي تعيش طور الانحطاط، هنالك اليوم غالبيات اجتماعية لا تشعر بعلاقة ود مع البيئات التي تعيش بها، وعلى الأقل لا تشعر بالانتماء إلى مايحيط بها من شواهد تاريخية ومعالم ثقافية ولا تربطها بالمكان علاقة وجدانية عميقة .
إن حركة ضد-حداثية مثل "داعش"، إنما تعبر جزئياً عن حالة الكراهية تجاه المدينة برواسبها الثقافية الغنية وهوياتها المتعددة، وهي حركة لا تحفل إلا ببعد واحد لتلك الهوية يقوم على نوع من " الطهرانية" العدوانية التي تريد إزالة كل شيء " لوثه" الاحتكاك بثقافة أو هوية أخرى، وداعش بهذا المعنى هي ذروة التعبير عن الاغتراب تجاه المكان الذي تعيشه فئات واسعة في مجتمعاتنا.
قد تواجه داعش مقاومة مستقبلاً، لكن ذلك لن يحصل على الأرجح لأن وحشيتها التي غيرت معالم المدينة الحضرية والثقافية أستفزت مقاومة شعبية، بل لأسباب أخرى تتعلق بالسيادة على الأرض والموارد. وتلك الأسباب هي نفسها التي صعّدت من مستوى الصراع على بغداد والتي قد تؤدي الى مزيد من الدمار في العاصمة. بغداد هي نموذج مهم للكيفية التي تمسخ فيها الأصوليات الدينية والعرقية ملامح مدينة تاريخية ارتبط "عصرها الذهبي" بالرخاء الاقتصادي والانفتاح الفكري وتعدد الهويات والثقافات. فبغداد تعرضت في ظل البعث العراقي الذي حمل تفسيراً عنصرياً بملامح قبلية للهوية - على الأقل في مرحلته الصدامية - إلى تشويه ثقافي وجمالي وديموغرافي نتيجة هيمنة الأولويات الأمنية لدى النظام، وطغيان التفكير الحربي والذكوري على فهمه للمعمار. تدريجياً أخذت بغداد تتعسكر أكثر وتظهر لها ملامح قبيحة تتمحور أولا حول الفهم العصبوي الضيق لمعنى " العروبة" لدى النظام، وثانياً حول شخصية رئيس النظام الذي اقتنع - او تم إقناعه - بان خصائص الهوية العراقية يمكن أن تختزل فيه، فهو " خيال الشكرة" و"فارس الأمة" و"باني مجدها"، وباتت صفات هذا الفارس تتجسد في كل زاوية من بغداد لتمسخها وتحولها إلى محض مخيم يستمد وجوده وبقائه وعساكره من " قائده المحارب".
لم تكن هناك استجابة "بغدادية" لعملية المسخ الثقافي والجمالي خارج نطاق النخبة المشتغلة بالثقافة والفكر والجماليات، لأن مصطلح " أهل بغداد" كان قد فقد أهميته كفاعل سياسي واجتماعي مع تحول بغداد وهويتها. تم استكمال عملية التشويه والتدمير لرمزية بغداد التاريخية مع اندلاع حروب الطوائف وحتى هذه اللحظة، حيث تهدد الميليشيات" السنية" بالزحف على بغداد لاستعادة "هويتها السنية"، وتقابلها الميليشيات الشيعية بتأكيد سيادتها الديموغرافية على بغداد عبر تشييعها اكثر، وهي عملية ساعدتها هيمنة قوى الاسلام السياسي الشيعي على الحكومتين المركزية والمحلية والتي كرست الكثير من زوايا بغداد لتجسيد السردية الدينية الشيعية ورموزها.
وفي حقيقة الامر، لا توجد علاقة وطيدة بين الرمزية التاريخية لبغداد وبين السرديتين الطائفيتين السنية والشيعية، بل إن كلا السرديتان تتفقان على طمر تلك الرمزية المرتبطة أساساً بالانفتاح الفكري والثقافي ومظاهر الرخاء، لصالح اختزال بغداد إلى مجرد مكان لممارسة السلطة والهيمنة. تمقت السلفية السنية بغداد المعتزلية، بغداد التي لعب " الفرس" وغيرهم من الأقوام غير العربية دوراً في صناعة ازدهارها وقوتها، بغداد التي انحرفت في فكرها وسلوكها عن منهج "السلف الصالح" وباتت مرتعاً لـ "المجون والفسق". بينما ترى السردية الشيعية في بغداد عاصمة لخلفاء أغتصبوا الحكم من أهل البيت وسجنوهم وقتلوهم، وهي سردية تكرس التبجيل لضاحية بغدادية -كالكاظمية- على حساب مناطق أخرى ارتبطت اسما أو مكاناً أو تاريخاً بهؤلاء الخلفاء المغتصبين. هل نستغرب بعد ذلك من غياب أي عناية خاصة بهوية بغداد المعقدة في العقل البسيط للفئات الحاكمة هناك اليوم وهي فئات تشرّبت بفكرة الانتقام الطائفي والشك بالآخر !
تمضي السرديات الطائفية بتشويه صورة وثقافة المدينة لتدميرها رمزياً قبل استكمال خرابها المادي في "المعركة المنتظرة". وتظل مقاومة "أهل بغداد" كمقاومة "أهل الموصل" رغبة عاطفية أكثر من كونها حقيقة على الارض، لأن ما شهدته المدينتان والبلد كله، بل والمشرق العربي بمجمله، من تحولات سياسية واجتماعية وديموغرافية لم يبق لتلك المدن القديمة من أهل لقد أصبحت مكاناً في خارج الزمان الذي يخضع اليوم لسطوة العقل الأصولي وتجلياته الدينية والطائفية، وقد صار على هذا "المكان" أن ينسجم مع زمانه الذي لم يعد يعترف بالتنوع والتعايش والتعدد. نحن في عصر إعادة صياغة المكان كي يصبح ذا بعد واحد، بهوية فقيرة وموحشة تعكس حالة النكوص الثقافي العميق التي دخلناها – وأُدخلنا فيها- .